فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.
عطفت جملة: {وما كان جواب قومه} على جملة: {قال لقومه} [الأعراف: 80].
والتّقدير: وإذ ما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا إلخ، والمعنى: أنّهم أفحموا عن ترويج شنعتهم والمجادلة في شأنها، وابتدروا بالتّآمر على إخراج لوط عليه السّلام وأهله من القرية، لأنّ لوطًا عليه السّلام كان غريبًا بينهم وقد أرادوا الاستراحة من إنكاره عليهم شأن من يشعرون بفساد حالهم، الممنوعين بشهواتهم عن الإقلاع عن سيّئاتهم، المصمّمين على مداومة ذنوبهم، فإنّ صدورهم تضيق عن تحمّل الموعظة، وأسماعهم تصمّ لقبولها، ولم يزل من شأن المنغمسين في الهوى تجهّم حلول من لا يشاركهم بينهم.
والجواب: الكلام الذي يقابل به كلام آخر: تقريرًا، أو ردًّا، أو جزاء.
وانتصب قوله: {جواب} على أنّه خبر {كان} مقدّم على اسمها الواقععِ بعد أداة الاستثناء المفرغ، وهذا هو الاستعمالُ الفصيحُ في مثل هذا التّركيب، إذا كان أحد معمولي كان مصدرًا منسبكًا من {أنْ} والفعللِ كما تقدّم في سورة آل عمران وسورة الأنعام، ولذلك أجمعت القرءات المشهورة على نصب المعمول الأوّل.
والضّمير المنصوب في قوله: {أخرجوهم} عائد على محذوف عُلم من السّياق، وهم لوط عليه السّلام وأهلُه: وهم زوجُه وابنتاه.
وجملة: {إنهم أناس يتطهرون} علّة للأمر بالإخراج، وذلك شأن إنّ إذا جاءت في مقام لا شكّ فيه ولا إنكار، بل كانت لمجرّد الاهتمام فإنَّها تفيد مُفاد فاء التّفريع وتدلّ على الربط والتّعليل.
والتّطهر تكلّف الطّهارة، وحقيقتُها النّظافة، وتطلق الطّهارة مجازًا على تزكية النّفس والحذر من الرذائل وهي المراد هنا، وتلك صفة كمال، لكن القوم لمّا تمرّدوا على الفسوق كان يعُدّون الكمال منافرًا لطباعهم، فلا يطيقون معاشرة أهل الكمال، ويذمّون ما لهم من الكمالات فيُسمّونها ثقلًا، ولذا وصَفُوا تنزه لوط عليه السّلام وآله تطهّرًا، بصيغة التكلّف والتصنُّع، ويجوز أن يكون حكاية لما في كلامهم من التّهكّم بلوط عليه السّلام وآلِه، وهذا من قلب الحقائق لأجل مشايعة العوائد الذّميمة، وأهل المجون والانخلاع، يسمّون المتعفّف عن سيرتهم بالتّائب أو نحو ذلك، فقولهم: {إنّهم أناس يتطهرّون} قصدوا به ذمّهم.
وهُم قد علموا هذا التّطهر من خلق لوط عليه السّلام وأهله لأنّهم عاشروهم، ورأوا سِيرتهم، ولذلك جيء بالخبر جملة فعليّة مضارعيّة لدلالتها على أنّ التّطهر متكرّر منهم، ومتجدّد، وذلك أدعَى لمنافِرتهم طباعهم والغضب عليهم وتجهّم إنكار لوط عليه السّلام عليهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.
وبذلك تمادى هؤلاء القوم رافضين أن يقبح أحد لهم الشذوذ؛ لذلك قالوا: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ...}.
وما هي الحجة التي من أجلها إخراج لوط والذين آمنوا معه من القرية؟ {... أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82].
فهل التطهر عيب! لا، لكنهم عاشوا في النجاسة وألفوها، ويرفضون الخروج منها، لذلك كرهوا التطهر. والمثال على ذلك حين نجد شابًا يريد أن ينضم إلى صداقة جماعة في مثل عمره، لكنه وجدهم يشربون الخمور، فنصحهم بالابتعاد عنه، ووجدهم يغازلون النساء فحذرهم من مغبة الخوض في أعراض الناس، لكن جماعة الأصدقاء كرهت وجوده بينهم لأنه لم يألف الفساد فيقولون: لنبتعد عن هذا المستقيم المتزهد المتقشف، وكأن هذه الصفات صارت سُبة في نظر أصحاب المزاج المنحرف، مثلهم مثل الحيوان الذي يحيا في القذارة، وإن خرج إلى النظافة يموت. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}.
العامَة على نصب {جَوَابَ} خبرًا للكون، والاسمُ {أن} وما في حيِّزِهَا وهو الأفصح؛ إذ فيه جعل الأعرف اسمًا.
وقرأ الحسن {جوابُ} بالرَّفع، وهو اسمها، والخبر {إلاَّ أن قالُوا} وقد تقدَّم ذلك.
وأتى هنا بقوله: {ومَا}، وفي النّمل [56] والعنكبوت [24] {فَمَا}، والفاء هي الأصل في هذا الباب؛ لأنَّ المراد أنَّهُم لم يتأخر جوابهم عن نصيحته، وأما الواو فالعتقيب أحدُ محاملها، فتعيَّن هنا أنَّها للتعقيب لأمرٍ خارجي وهي العربية في السّورتين المذكورتين لأنَّها اقتضت ذلك بوضعها. اهـ.

.تفسير الآية رقم (83):

قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تسبب عن عنادهم إهلاكهم وإنجاؤه، وكان الإعلام بإنجائه- مع كونه يفهم إهلاكهم- أهم، قال: {فأنجيناه وأهله} أي من أطاعه {إلا امرأته} ولما كان كأنه قيل: ما لها؟ قال: {كانت من الغابرين} أي الباقين الذين لحقتهم بالعذاب العبرة والتذكير إشارة إلى أنها أصابها مثل عذاب الرجال سواء، لم تنقص عنهم لأنها كانت كافرة مثلهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن قوله: {فأنجيناه وَأَهْلَهُ} يحتمل أن يكون المراد من أهله أنصاره وأتباعه الذين قبلوا دينه ويحتمل أن يكون المراد المتصلين به بالنسب.
قال ابن عباس: المراد ابنتاه.
وقوله: {إِلاَّ امرأته} أي زوجته.
يقال: امرأة الرجل بمعنى زوجته.
ويقال: رجل المرأة بمعنى زوجها لأن الزوج بمنزلة المالك لها، وليست المرأة بمنزلة المالك للرجل، فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام، عرفت الزوجية.
وملك النكاح، والرجل إذا أضيف إلى المرأة بالاسم العام، تعرف الزوجية.
وقوله: {كَانَتْ مِنَ الغابرين} يقال: غبر الشيء يغبر غبورًا، إذا مكث وبقي.
قال الهذلي:
فغبرت بعدهم بعيش ناصب ** وإخال أني لاحق مستتبع

يعني بقيت فمعنى الآية: أنها كانت من الغابرين عن النجاة أي من الذين بقوا عنها ولم يدركوا النجاة يقال فلان غبر هذا الأمر أي لم يدركه، ويجوز أن يكون المراد أنها لم تسر مع لوط وأهله، بل تخلفت عنه وبقيت في ذلك الموضع الذي هو موضع العذاب. اهـ.

.قال السمرقندي:

{فأنجيناه وَأَهْلَهُ} يعني: ابنتيه زعوراء وريثا {إِلاَّ امرأته} وهي واعلة {كَانَتْ مِنَ الغابرين} يعني: من الباقين في الهلاك فيمن أهلكوا. اهـ.

.قال الثعلبي:

{فَأَنجَيْنَاهُ} يعني لوطًا {وَأَهْلَهُ} المؤمنين به، وقيل: وأهله بنتاه: نعوذا وديثا.
{إِلاَّ امرأته} فاعلة فإنّها {كَانَتْ مِنَ الغابرين} يعني الباقين في العذاب وقيل: معناه: كانت من الباقين والمعمّرين قبل الهلاك الذين قد أتى عليهم عمرت دهرًا طويلا فهرمت فيمن هرم من الناس. فهلكت مع مَنْ هلك من قوم لوط حين أتاهم العذاب. وإنّما قال: {الغابرين} ولم يقل: الغابرات لأنه أراد أنّها ممّن بقى مع الرجال فلمّا ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قيل: الغابرين. وقيل: له غبر يغبر غبورًا، وغبر إذا بقي. قال الشاعر:
وأبي الذي فتح البلادبسيفه ** فأذلّها لبني أبان الغابر

يعني الباقي.
وقال أبو ذؤيب:
وغبرت بعدهم بعيش ناصب ** وإدخال أنّي لاحق مستتبع

. اهـ.

.قال الماوردي:

{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ}.
فيه وجهان:
أحدها: فخلصناه.
والثاني: على نجوة من الأرض، وقيل: إن أهله ابنتاه واسمهما زينا ورميا. {مِنَ الْغَابِرِينَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: من الباقين في الهلكى، والغابر الباقي، ومنه قول الراجز:
فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَر ** لَهُ الإِلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَر

والثاني: من الغابرين في النجاة، من قولهم: قد غبر عنا فلان زمانًا إذا غاب، قال الشاعر:
أَفَبَعْدَنَا أو بَعْدَهُمْ ** يُرْجَى لِغَابِرِنَا الْفَلاَحُ

والثالث: من الغابرين في الغم، لأنها لقيت هلاك قومها، قاله أبو عبيدة. اهـ.

.قال ابن عطية:

واستثنى الله امرأة لوط عليه السلام من الناجين وأخبر أنها هلكت، والغابر الباقي هذا المشهور في اللغة، ومنه غير الحيض كما قال أبو كبير الهذلي: [الكامل]
ومبرأ من كل غبر حيضة ** وفساد من ضعة وداء مغيل

وغبر اللبن في الضرع بقيته، فقال بعض المفسرين: {كانت من الغابرين} في العذاب والعقاب أي مع الباقين ممن لم ينج، وقال أبو عبيدة معمر: ذكرها الله بأنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة إلى أن هلكت مع قومها.
قال القاضي أبو محمد: فكأن قوله: {إلا امرأته} اكتفى به في أنها لم تنج ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة، والأول أظهر، وقد يجيء الغابر بمعنى الماضي، وكذلك حكى أهل اللغة غبر بمعنى بقي وبمعنى مضى، وأما قوله الأعشى: [السريع]
عض بما أبقى المواسي له ** من أمه في الزمن الغابر

فالظاهر أنه أراد الماضي وذلك بالنسبة إلأى وقت الهجاء، ويحتمل أن يريد في الزمن الباقي وذلك بالنسبة إلى الحين هو غابر بعد الإبقاء، ويحتمل أن يعلق في الزمن بعض فيكون الباقي على الإطلاق والأول أظهر. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فأنجيناه وأهله}.
في أهله قولان:
أحدهما: ابنتاه.
والثاني: المؤمنون به.
{إلا امرأته كانت من الغابرين} أي: الباقين في عذاب الله تعالى.
قال أبو عبيدة: وإنما قال: {من الغابرين} لأن صفة النساء مع صفة الرجال تُذكَّر إذا أشرك بينهما. اهـ.